إشارات في قصيدة الحضــرة

>> حزب الفلاح
>> الحضرة
>> الياقوتة
>> شرح حزب الفلاح
>> إشارات في قصيدة الحضــرة

----------------------------------------------

2)، إشارات في قصيدة الحضــرة:

شرح الأستاذ حاكمي أحمد بن عثمان

ملاحظـــات

قبل التطرق للحديث عن الإشارات الواردة في الحضرة الشيخية هذه بعض الملاحظات:

1ـ سن الشيخ قصيدة الحضرة باللسان الدارج مراعاة منه لمستويات الناس المتواضعة آنذاك،

2ـ اختيار أسلوب التبسيط مع ما يتضمن من معاني عرفانية جاء حرصا على مخاطبة الناس بما يفهمون

3ـ تتضمن الحضرة على الرغم من بساطتها وقصرها أهم الأصول الواردة في الياقوتة كما سنرى.

4ـ قد يؤدي ورود الحضرة باللسان العامي إلى بعض الاختلاف في بعض ألفاظها من منطقة لأخرى ومن جيل لآخر نظرا لاختلاف اللهجات والمستويات، اختلاف لا يعيبها مادام لا يؤدي إلى تغيير المعاني.

وهناك ملاحظات سبق للأستاذ الفاضل عبد الله طواهرية أن أشار إلى بعضها حول سن الحضرة في فصل الشتاء، أذكر منها ما يلي:

5ـ اعتياد الناس التجمع في فصل الشتاء بعد انتشارهم في الفصول الأخرى سعيا وراء أسباب العيش. وكان تجمعهم شتاء ضروريا لمواجهة قساوة الطبيعة جماعيا، خصوصا مع تقلص أسباب الانتشار.

6ـ حث المريدين على اغتنام أوقات الفراغ التي تزيد مع قلة المشاغل وتمدد الليالي الشتوية.

7ـ حرص الشيخ رحمه الله على استغلال هذه الظروف لتوطيد الروح الجماعية لدى المريدين وترسيخها في القلوب وتحفيزهم على المحافظة على التنظيم وتجديد العهد فيما بينهم وبين المقاديم وفيما بينهم وبين الشيخ.

8 ـ مراعاة لجانب الأخذ بالعزائم حتى لا يظل المريد الشيخي متتبعا للرخص، وحتى يتزود بشحنة إيمانية تساعده أن يقضي الفصول الأخرى في علاقة مرضية بربه وارتباط بشيخه والتحام بإخوانه المريدين.

ولا ننسى أن الشتاء ربيع المؤمن، يكون فيه أكثر رهافة في الحس ورقة في الشعور والوجدان واستعدادا للتلقي والقبول.

9ـ جميع أبيات الحضرة مثناة القافية لتزيد من بلاغة المعنى وقوة التأثير. وما دمنا قد افترضنا إمكانية تعرض بعض الألفاظ للتغيير، فيبدو أنه طال قوافي الأبيات :11/14/21، كما سنرى.
ـ فإن كان في البيت 11 (التسليم ليك رضى) يفيد أن في تسليم أمورنا لله دليل على رضائنا بقضائه وقدره معنى صحيح بلا شك، إلا أن التعبير يكون أقوى بقولنا (التسليم فيه رضاك) الذي يفيد أن القصد من وراء تسليم أمورنا له سبحانه هو عين رضاه. بمعنى آخر أن الفوز بمرضاة الله تعالى لا يتم إلا عن طريق التسليم الكامل. ولما كانت مرضاة الله تعالى هي مبتغى الأسنى للمريد وغايته القصوى، والهدف من وراء التسليم بالقضاء والقدر هو الحصول على مرضاة الله ابتداء، وكان التعبير الثاني أبلغ. فبالإضافة إلى ما فيه من تحقيق لقافية البيت، فإنه يزيده في نفس الوقت جمالية في المبنى وقوة في المعنى، فيبدو أن التعبير به أولى، كما يلي:

التسليم فيه رضاك والأدب فيها يوالي لعلها لهواك تصفى بها أحوالي
ـ أما بخصوص البيت 21، فإن قولنا (وجهت لك قلبي) يوحي بوجود نوع من الأنا في نسبة القلب للشخص،
أما التعبير بقولنا (توجه لك القلب) فهو أبلغ في التأدب مع الله تعالى بالتجرد التام من رائحة الأنا. فإذا أضفنا كونه يقيم قافية البيت ويزيده قوة في المعنى، ويؤدي نفس المعنى وزيادة، وأخف من النطق، كان أولى كما يلي:
توجه ليك القلب متشوق يا جواد اسقنا من بطن الغيب ووفقنا للمراد

10 ـ بالقصيدة أربعة أبيات تنتهي بقافية فردية غير مكررة وهي الأبيات الآتية: البيت 4 بحرف ق، و البيت 12 بحرف ب، والبيت 16 بحرف ح، و البيت 18 بحرف س.هذه الأحرف الأربعة وحدها غير مكررة. والملاحظ أن مجموع قيم هذه الحروف بالحساب الأبجدي يساوي 170. وهذا العدد يشير إلى أمور منها:
ـ إشارة إلى قوله تعالى ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أي حوصلة عدد الركعات المفروضة في اليوم مضروبة في عشرة : 17*10=170
ومما ترمز إليه قيم أعداد هذه الحروف أذكر ما يلي:
ـ أما قيمة القاف100 فيرمز إلى عدد السبحات التي يأتي بها المريد في ورده اليومي.
ـ إذا أضفنا إليه قيمة الباء 2: نحصل على عدد الدور الذي مر بيانه، 102مرة من الكلمة الطيبة.
ـ أما الثمانية قيمة الحاء فترمز إلى عدد السبحات في الورد الشيخي، بالإضافة إلى ما هو معروف ب: ثمانية سيدي الشيخ، بصرف النظر عن أسرار هذا العدد الكثيرة التي ليست من طبيعة هذا البحث.
ـ أما 60 قيمة السين فمما ترمز إليه عدد أحزاب القرآن الكريم والله أعلم أهم أهداف الطريقة.

11ـ ملاحظة ذات أهمية، أن كل بيت من هذه القوافي المنفردة يفتتح فقرة تعالج موضوعا خاصا.
=فإذا كانت الفقرة المكونة من الأبيات الثلاث الأولى تعالج موضوع العقيدة كما سنرى، فإن:
=الفقرة الثانية 4/11تبتدئ ببيت القاف، وهي تعالج جوانب الأدب والسلوك في الطريقة معالجة وفية.
= الفقرة الثالثة 12/15، فتعالج موضوع الحقيقة المحمدية ومضمون الرسالة.
= الفقرة الرابعة 16/17، فهي على قصرها تشير إلى لب توحيد الألوهية، ثم تأتي
=الفقرة الخامسة الخاتمة تفصل توحيد الربوبية.
يتبين من هذا أن الشيخ لم يأت بتلك القوافي الأحادية على سبيل الاعتباط. وإنما كانت مقصود وفي غاية الدقة ولها من الدلالة والمعاني ما لها.
وبناء على هذا التقسيم تعالوا معنا نسبح قليلا في رحاب الحضرة الشيخية لنقول وبالله التوفيق:
إن الحضرة الشيخية تتكون من خمس فقرات رئيسة كما قلنا، فقرات مرتبطة فيما بينها لتخدم موضوعا أساسيا وهو توحيد الله سبحانه توحيد ألوهية وتوحيد ربوبية وإفراده وحده بالعبودية.
لما كانت جميع الطرق الصوفية، وأخص هنا الطريقة الشيخية تحرص كل الحرص على تحقيق التوحيد في حياة المريد، وهذا ما نلمسه في هذه الطريقة المبارك بالتأكيد، سواء في حزب الفلاح أو الحضرة أو الياقوتة، تعالوا معنا نلخص بعض قواعد التوحيد الأساسية في الفقرات التالية.

1ـ لاشيء مثلـه سبحانــه:
سواء في الذات أو الصفات أو الأفعال مصداقا قوله تعالى: (ليس كمثله شيء)((33)). وتنبني على هذه القضية كونه:

2ـ موجود لا من عــــدم:
أي أن وجوده سبحانه ذاتيا أزليا لم يسبق بعدم، لأن كل موجود من عدم فهو محتاج إلى من يوجده بناء على قاعدة "بطلان الرجحان بدون مرجح". أما جميع الكائنات سواه فحادثة تم إيجادها من عدم.

3ـ أول لا من بدايــــــة:
أما كونه أولا فلأنه إن لم يكن كذلك لكان مسبوقا، وكل مسبوق محدث. وأما كونه أولا لا من بداية فلأنه إن كانت له بداية لاقتضى أن يكون موجودا من عدم ومفترقا إلى موجد، وأيضا لاقتضى أن يكون ملحوقا لأن البداية تقتضي الترتيب، والترتيب يقتضي المماثلة بوجه من الوجوه. ثم:

4ـ آخر لا بنهايــــــة:
أما كونه آخرا فلأنه إن لم يكن آخرا لكان ملحوقا، وكل ملحوق ناقص. وأما كونه آخرا لا بنهاية فلأنه إن لم يكن كذلك لطرأ عليه الفناء وهو في حقه محال. ويجدر التنبيه إلى قضية من الأهمية بمكان، وهي أن كونه أولا لا يعني شيئا آخر غير كونه آخرا وإنما هما بمعنى واحد. إنه الواحد سر مدا أي أزلا وأبدا. وإلى هذا المعنى حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتفكر في ذات الله تعالى لأنها فوق إدراك العقل لنقتصر على التفكر في بديع صنعه، لأنه كلما تتصوره في بالك فهو سبحانه مخالف لذلك. وإلى هذا المعنى أشار الشيخ في بيت لاحق أن العقل لا يسعه إلا الدهشة والذهول في موضوع الذات حينما قال "تحيرت العقول في كنهك".
وتتعلق القضايا الأربع السالفة بموضوع الذات ونلحقها هنا ببعض القضايا الأخرى التي تتعلق بالصفات لتتلوها أخرى تتعلق بالأفعال:

5ـ ليس على قدرته قيود ولا لها حـدود:
هذه إحدى أمهات القضايا، أي طلاقة القدرة التي ينبني عليها صرح التوحيد، لكونها يتم على مقتضاها فهم مجموعة من أفعال الحق سبحانه وتعالى التي يعز على العقل المجرد أن يستسيغها، لكونه ألف السنن الثابتة التي يسير وفقها الكون. وحينما تتدخل مشيئة الله المطلقة لتخرق إحدى هذه السنن بمقتضى الطلاقة، يبادر العقل القاصر إلى التكذيب. وهذا التكذيب العائد إلى عجز العقل، هو لون من وضع القيود على طلاقة قدرته سبحانه. وهذا ما يسمى بالتعطيل. وهو التكذيب نفسه، الذي حدا بطوائف من أمتنا إلى نكران الكرامات التي يجريها الله سبحانه على يد من شاء من عباده تكريما له.

6ـ لا يكون إلا ما يريـــــد:
ثاني أمهات القضايا التي ينبغي الجزم بفحواها طلاقة المشيئة. فإرادة الله نافذة في الكون كله لا يخرج أي شيء عن نطاقها إطلاقا. كما لا يخرج عنها أيضا النصيب الضئيل الذي منحه الله للإنسان من الإرادة والقدرة، والذي هو مظهر من أوجه الدلالة على قدرة الله ومشيئته المطلقتين. ببساطة نقول:
إن إرادة الله ذاتية ومطلقة، تتعالى عن الحدود والقيود. وقد شاءت أن يكون الوجود على ما هو عليه. ولو شاءت غير ذلك لكان كما شاءت.كماشاءت أن يكون الإنسان مزودا بنصيب من الحرية في نطاق جد محدود، لحكم وأسرار يعلمها الله سبحانه، من ضمنها أن يعبد سبحانه بحرية واختيار من قبل الثقلين.ولما كانت حرية الإنسان ممنوحة فهي محدودة. ولما كانت أفعال الله سبحانه مقرونة بحكم، اقترنت حرية الإنسان بحكمة التكليف:
ـ حتى لا يعتقد ذاتيتها فيه ليضاهي بها حرية الخالق الذي منحه إياها من ناحية،
ـ وحتى لا يطرأ عليها العبث فتوظف فيما لا يليق بمقام العبودية من ناحية ثانية،
ـ وحتى يعبر الإنسان من خلالها عن حقيقته إن صلاحا أو طلاحا من ناحية ثالثة.

7ـ يتصرف لا لعبـــــث:
لما كانت الصنعة مظهرا يدل على مهارة الصانع، وكان سبحانه قد أبدع الكون بشكل ليس بالإمكان أبدع مما هو عليه، كان من المستحيل أن يخلق سبحانه شيئا عبثا، حتى لا ينعت بالنقص تعالى سبحانه عن ذلك علوا كبيرا.
= فتعدد الحكم من وراء الخلق ما أدرك منها العقل وما لم يدرك، هي مظهر من مظاهر كماله.
= ووراء كل حكمة مصالح للعباد بالتأكيد وهب المظهر لتلك الحكم.
= ومنافع تلك المصالح تعود بالضرورة على المخلوق، إذ الله سبحانه منزه عن الحاجة.
ومن جهة أخرى فإن أفعاله سبحانه ليست معللة غائيا، أي ليست صادرة عن سابق تفكير وتدبير، لأن ذلك من علامات النقص والتقصير. وإنما أمره للشيء كن فيكون((34))، ولذلك كان:

8ـ يحرم لا من قلـــــة:
لما كان سبحانه هو الغني عن العالمين، وهو صاحب الفضل العظيم، وكانت جميع أفعاله مقترنة بحكم، وكان سبحانه هو الضار والنافع والمعطي والمانع، اقتضى الحال أن يكون وراء كل من الضر والنفع شأن العطاء والمنع حكم قد تغيب عن إدراك العقل. ومنعه للأشياء لا يعود لقلة لديه، وإنما لحكمة تترتب على المنع يعود نفعها على المحروم مهما كان الظاهر خلاف ذلك.

9 ـ قيوم لا ينـــــــام:
لما كان وجود الكائنات يتطلب قيومية مستمرة، وكان الحق سبحانه منزه عن جميع النقائص، كان سبحانه قيوما على كونه لا تأخذه سنة ولا نوم، لا بسبب افتقار مخلوقاته إلى قيوميته فحسب، وإنما لأن القيومية من مقتضيات الكمال، إذ لو كان خلف ذلك لاعترته الغفلة، تعالى عن ذلك سبحانه علوا كبيرا.

10 ـ خالق لا لحاجــــة:
لما كان سبحانه غني عن العالمين، وكان ملكه كله فضل، وكان جميع ما قضى إيجاده من قبيل الفضل، اقتضت مشيئته أن يخلق لا حاجة له فيها وإنما لحكم رتبها على الخلق.

11 ـ رازق لا بمؤنــــة:
لما كان ترتيب الرزق على المؤنة عن طريق اتخاذ الأسباب من السنن الجارية:
ـ كان رزقه لمخلوقاته بمقتضى طلاقة القدرة بما فوق الأسباب بقوله لها كن.
ـ وبمقتضى طلاقة الحكمة لم ينزل من الأرزاق إلا بالقدر المعلوم، مصداقا لقوله تعالى (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم)((35)). والحكمة من ذلك أن البسط في الرزق من أسباب البغي والطغيان مصداقا لقوله تعالى (ولو بسط الله لعباده الرزق لبغوا في الأرض).((36))

12 ـ باعث لا بمشقــــة :
لما كان منطق العقل يقتضي أن تكون صعوبة الأمور في إنشائها لأول مرة، وكانت أفعال الخالق، وهو الذي لا يعجزه شيء، لا تعتريها مشقة لا بدءا ولا إعادة البتة، (وما مسنا من لغوب)((37))، كان بعثه للمخلوقات بلا مشقة مثلما كان خلقه لها في بداية الأمر، لأن المشقة دليل العجز والافتقار، وهو سبحانه منزه عن النقائص. (كما بدأنا أول خلق نعيده)((38)).

3) في رياض العبــــــــــودة
يعالج هذا المبحث العزيز الفقرة الخامسة والأخيرة من الحضرة والتي تتكون من الأبيات الست الأخيرة:
يالله يا ذا الجلال، والجمال والكمـال تحيرت العقول، في كنهك بلا مثـــــــــال
يالله أنت ربي، إلهي مالي غـيـــرك يالله نور قلبي، إلهي برحمتـــــــــــــــــك
توجه ليك القلب، متشوق ياجـــــواد اسقنا من بطن الغيب، ووفقنا للمــــــــراد
يالله اغفر ذنبي، يالله يوم حشــــرك يالله استر عيبي، يالله برحمتـــــــــــــــــك
انظر فينا نظرة، يالطيف بالعبـــــــاد جدد لنا الحضرة، واسقنا كـــــــأس الوداد
يالله طـب المعلول، يالله بجاه الرسول يالله وشفي المعلول، يالله وفي ذا القـــــول
وهي فقرة خاصة بالدعاء باعتباره مخ العبادة كما ورد في معنى الحديث الشريف.
ومن الملاحظات المتعلقة بهذه الفقرة نشير إلى ما يلي:

1) إنها الفقرة الوحيدة ذات القافية الفريدة حيث يختم أول وآخر بيت منها، عرضا وصدرا بنفس الحرف، أي اللام. وهي قافية لم تتكرر في غير البيتين. وفي ذلك تلميح إلى ضرورة التركيز في الطلب وجمع الهمة وإخلاص القصد وتحري الصواب والتعرض للنفحات واغتنام فرص الإجابة ليكون الدعاء محل قبول.

2) ابتدأت الفقرة بالحديث عن القضايا الأساسية الثلاث: الكمال والجلال والجمال: فكماله يكمن في جلاله الذي هو مظهر الألوهية وفي جماله الذي هو مظهر الربوبية. ولعل في ذلك إشارة إلى أمرين أساسيين:
- ضرورة التوسل إلى الله بكماله وجلاله وجماله أي التوسل إليه به كما ورد الحث على ذلك في أحاديث كثيرة. وقد لمح الشيخ إلى هذا التوسل في قوله " إلهي بحرمتك" في البيت اللاحق.
ـ ضرورة أن يعيش الإنسان طوال حياته بين جلال الله وجماله أي بين الخوف والرجاء.

ـ أما الخوف فينبغي أن يكون قبل الوقوع في الذنب لتفاديه، وفي حالة القوة لحسن توظيفها، وفي مرحلة الشباب ليتم اغتنامه في مرضاة الله تعالى.
ـ وأما الرجاء فينبغي أن يتلو الوقوع في الذنب ليحبب التوبة ويزرع فيه الأمل، وفي حالة الضعف
لتجنب اليأس وهكذا...
على أن مواطن الخوف ينبغي أن لا تخلو من رجاء لبث الأمل والتحفيز على العمل. كما ينبغي أن لا تخلو مواطن الرجاء بدورها من خوف حتى لا تسوق صاحبها إلى الأمن من مكر الله. إنما ينبغي أن يظل المسلم بين الخوف والرجاء حسب ما يقتضيه الحال.

3)إنها فقرة مثناة القافية كل بيتين منها ينتهيان بقافية واحدة.
نعود للحديث على الفقرة لنقول، لما كان تعلق الإنسان يدور حول معاشه ومعاده، وكانت وظيفته الأساسية تحقيق العبودية لله، وغايته الفوز بمرضاة الله، ولما كانت حقيقة الإنسان ما تنطوي عليه سريرته، أي بما في الأجباح لا بما في الأشباح، تركز الطلب في هذه الفقرة حول سلامة القلب، لأن سلامة القلب تترتب عليها صحة الأعمال، وصحة الأعمال تترتب عليها قبولها ليتم في النهاية الفوز يوم الميعاد بمرضاة رب العباد. ولا أدل على ذلك من قوله تعالى(يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)((39))
وقد أكد الشيخ في البيت 19 كون العقل محدودا كما سبقت الإشارة إلى ذلك غير ما مرة حيث أشار أن العقول تظل عاجزة عن إدراك كنه الذات لتبقى محتارة مندهشة مبهورة بقوله :"تحيرت العقول في كنهك". والشيخ بتناوله لموضوع التوسل قد نبه إلى ضرورة فتح مجال البصيرة لكونها أداة إدراك لما بعد مجال العقل ما دام موضوع التوسل ينبثق عن العقيدة التي محلها القلب و البصيرة عين القلب.
ولما كان كل من توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية يتحققان إما بالاقتناع العقلي عن طريق الاستدلال أو بالتصديق القلبي عن طريق الإيمان، تناول قول الشيخ " يالله أنت ربي إلهي مالي غيرك " التوحيدين معا مشيرا إلى الاقتناع العقلي بقوله "يالله نور قلبي ". وكأني بالشيخ يحفز مريده على بلوغ مرتبة الاطمئنان بالطريقين معا، مقتديا بالخليل إبراهيم الذي ظل يبحث على اطمئنان القلب في قصة الطير الواردة في القرآن الكريم، بعدما تجاوز الاقتناع العقلي عن طريق تأمله حركات أفلاك الكون. وهذا ما جعل الشيخ يلح على مجموعة من المطالب القلبية منها :

1ـ طلب تنوير القلب في قوله "يالله نور قلبي" لأن القلب إذا تنور عقل، وإذا عقل عرف وإذا عرف تشوق للمحبوب. ثم تلاه بطلب :

2 ـ الهداية بقوله "توجه ليك القلب" لكون القلب بيد الرحمان يقلبها كيف يشاء. وقد ورد في المعنى حديث " اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك". وحينما يتنور القلب ويصح توجهه ويثبت على السير تبدأ الحقيقة أمامه في الانقشاع ليزداد لها تشوقا وبها تعلقا. ولذلك ورد قوله :

3 ـ متشوق يا جواد،أي اللهم وجه إليك قلبي توجها يكسب لذة الشوق للمحبوب ويزيده تعلقا بالمطلوب. ولما كان هذا المقام لاينال إلا من بحر الجود ابتداء وانتهاء تمت المناداة في الطلب باسمه تعالى يا جواد. ولما كانت مرحلة التلقين ينبغي أن تتلوها مرحلة التمكين جاء الطلب الموالي :

4 ـ"اسقنا من بطن الغيب" طلبا للصحو بعد السكر والإشراق بعد الغيم كما عبر عن ذلك في الياقوت بقوله:
"ومن بعد غيم جاء صحو سمائها بإشراق شمس بالمعارف حقت"
وحينها فقط يتم إدراك الأشياء على حقيقتها لا كما تبدو في عالم الأشكال.
وبعد هذه المطالب القلبية الأربعة يأتي بالطلب العام الشامل وهو:

5 ـ "وفقنا للمراد" : ويحتمل هذا الطلب معنيين باختلاف المقصود من لفظة المراد :
ـ فإما أن يكون مقصودا به المرحلة التالية لمرحلة المريد. وبيان ذلك أن جميع الناس مريدون لقول تعالى (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة)((40))، فالمراد قليل ما هم، إذ المراد من اجتبته العناية الإلهية بالتكريم الخاص وجعلته من أهل السابقة في الحسنى. وبناء على هذا يكون معنى الطلب: اللهم اجعلنا من الذين أكرمتهم بالسعادة وكسوتهم برداء المحبوبية والإرادة.
ـ كما قد يكون مقصودا به المعنى العام : أي اللهم وفقنا لما نريد من نصوح التوبة وثبات الاستقامة و صالح العمل و مغفرة الذنوب وستر العيوب والنظر إلى الوجه المحبوب. ويشمل هذا المعنى العام أيضا المطالب القلبية الأنفة الذكر. وقد يكون المعنيان متلازمين والله أعلم.
وبعد هذه المطالب التمهيدية ينتقل إلى مطالب الآخرة العليا التي يفتتحها بـ :

6 ـ طلب مغفرة الذنوب إذ يقول "يالله اغفر ذنبي ". وأما قوله "يوم حشرك" فإشارة منه إلى يوم الحشر و الحساب. وفي ذلك تلميح إلى قوله تعالى" ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته" حيث يتوجه إلى الله راغبا أن يقيه مناقشة الحساب علما منه أن( من نقوش الحساب فقد عذب)((41)) كما ورد في معنى الحديث. ثم يضيف :

7 ـ طلب الستر بقوله "يالله استر عيبي". وما أكثر عيوب الإنسان، ومن يستطيع أن يستر العيوب سواه سبحانه. ولو لم يستر مساوئنا جملة وتفصيلا لما استطاع أحدنا أن يتحمل أحب الناس إليه فترة وجيزة. ولما كان كشف اللثام عن عيوب الإنسان في الدنيا فضيحة تؤدي إلى نفور الناس منه واستثقالهم إياه، كان كشف عيوبه في الآخرة فضيحة أكبر ومعرة أخزى وعار وأي عار يؤدي إلى الخسران المبين. وبذلك جاء الطلب عاما ليشمل عيوب الدنيا والآخرة مادامت رحمة الله قد وسعت كل شيء.
وبعد ذلك جاءت الأدعية الختامية ومنها :

8) طلب النظر بعين الرضى بقوله:"انظر فينا نظرة يا لطيف بالعباد" لأن الذي نظر إليه مولاه بعين الرضى فقد فاز فوزا عظيما ما دامت عين الرحمة لا تقع إلا على المحبوب. ولما كان الحق سبحانه ينظر أيضا بعين الغضب حينما تنتهك حرماته جاء الطلب مشفوعا بالاستغاثة باسمه تعالى اللطيف. ولما كان لطفه يطال جميع مخلوقاته بكيفيات مختلفة، أوضح الشيخ نوعية اللطف المقصود وهو اللطف المتعلق بخصوص العباد. وغير خاف أن لفظة عباد تذكر في القرآن للمدح كقوله تعالى (وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) ((42)) وقوله تعالى(فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما)((43)).
ومعنى الطلب : اللهم انظر فينا بعين الرحمة واللطف، نظرة تجعلنا بها من عبادك الذين تحب وترضى.
ولاشك أن النظرة من هذا القبيل تجعل العبد في المسار الصحيح وتوثق صلة العبد بالله مما جعل الطلب الموالي:

9) طلب تجديد الحضرة بقوله " جدد لنا الحضرة ". والمقصود بالحضرة قد يكون الحضرة الإلهية ... ليكون المعنى اللهم صحح لنا المسار وقو لنا العزائم وسخر لنا الأسباب وأهدنا لصالح الأعمال وارزقنا قوة الإيمان ووفقنا لأرفع الآداب واكلأ نا بعين العناية حتى نسير في رحاب حضرتك بتوفيقك يا جواد.
كما قد يكون المقصود منها مجموع هذه الأبيات ليكون المعنى : اللهم جدد لنا فهم الحضرة وحبب لنا لذة معانيها وارزقنا حلاوة المواظبة عليها لنتخذها وسيلة تعرفنا بك وتقربنا إليك يا كريم. كما قد يكون المعنيان مقصودين في نفس الوقت.
ولما تم طلب النظرة بعين اللطف ثم تجديد الحضرة اقتضى الأمر أن يكون الطلب الموالي :

10) طلب الاستغراق في محبة الله تعالى بقوله " اسقنا كأس الوداد " أي كأس المحبة لكون المحبة ركن أساسي في جميع الطرق الصوفية، بل هي أساس السير إلى الله تعلى. وتعتبر المحبة في الطريقة الشيخية أهم الأركان إذ جعلها الشيخ أولى قواعد الطريقة بقوله في الياقوت:
" قواعدها شوق وعين يقينها محبة جد السير دأبا لحضرة ".
كما ذكرها في أبهى مراحل السير بقوله:
فلما أديرت الأباريق بيننا من الشوق تتلوها كؤوس المحبة
ولا يؤتى المحبة وهي أغلى الزاد وأصح المسالك إلى الله تعالى إلا ذو حظ عظيم. وقد وردت كشرط أساسي لتحقيق الإيمان في جملة من الأحاديث الشريفة مثل قوله صلى الله عليه وسلم ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواه )((44))، ومثل قوله ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)((45))، وغيرها من الأحاديث. والمحبة بهذا المعنى هي ثمرة لتنوير القلب و علامة بارزة على سلامته وصفائه. ثم جاء بعد ذلك دعاء أخر لعامة المسلمين :

طلب الشفاء بقوله "يالله طب المعلول" : ولما كان الجميع معلولا وكانت علل الناس تختلف نوعا وكيفا وكانت أكثر العلل معنوية روحية، جاء التوسل بجاه الرسول إشارة إلى أن التطبيب الحقيقي لجميع العلل حسيها ومعنويها يكمن في محبة الرسول وطاعته وإتباع سنته ليس إلا. وكل التماس للعلاج في سواها يبوء صاحبه بالخسران المبين. ونفس المعنى أكده الشيخ في الياقوت بقوله:
" وأي طبيب للقلوب من العمى أطب من الذكر القوي الإشارة ".
وبعدما يتم إقناع الشخص بأنه معلول ويتم تشخيص علته وتطبيبه، يتحتم انتظار الشفاء. ولذلك ورد بعده قول الشيخ "يالله واشف المعلول ". والشفاء يتحقق بصدق التوجه لله والإخلاص في العمل لوجهه الكريم مع تحري الصواب، والمداومة على الإكثار من ذكر الله تعالى، واقتفاء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبة الصالحين وملازمتهم بالأدب والتعظيم. وبعدما يتم الشفاء يتحرر المريد من جاذبية الخسران إلى دائرة الفوز والفلاح.

ولما كانت هذه الفقرة من جوامع الدعاء ختمت بقوله " يالله وفي ذا القول " إلحاحا في الطلب وتأكيدا عليه.
وبعد إتمام تلاوة الحضرة وذكر اسم الجلالة يأتي الدعاء العظيم بصيغة :
يالله يا دايم يا الحي يا باقي لا تجعل فينا لا محروم ولا شقي
والجدير بالملاحظة أن الأسماء الحسنى الأربعة الواردة في هذا الدعاء أسماء خاصة بالذات العلية. فأما اسمه تعالى الله هو اسم الجلالة الجامع الخاص بالذات. وأما الأسماء الثلاثة الأخرى الدائم ـ الحي ـ الباقي فكلها صفات ملازمة للذات.

وهنا لفتة لطيفة وهي أن تعلق الشيخ كان هنا بمقام الألوهية بدل مقام الربوبية وفي ذلك إشارة إلى ربط الطلب بتحقيق مقام العبودية بندائه بأسماء الذات. إنه على الحقيقة طلب أهدنا الصراط المستقيم ليتحقق به مقام إياك نعبد. وهذا دأب الصالحين في الطلب مثلما كان شأن سيدنا إبراهيم الخليل حينما استهل كلامه بطلب الهداية لتحقيق مقام العبودية "الذي خلقني فهو يهديني "((46)) قبل أن يتطرق فيما بعد للحديث عن المطلب الأخرى.
أما هذا الدعاء فذو شقين : الأول لا تجعل فينا محروم، والثاني لا تجعل منا شقي :
أما المقصود بالحرمان في الشق الأول فحرمان الدنيا، إذ المحروم فيها بحق من حرم نور الهداية ولذة الاطمئنان. ولما كان مبتغى الإنسان الأسنى هو الفوز بسعادة الآخرة أي بمرضاة الله والنظر إلى وجهه الكريم، كان سبيل الوصول لهذه السعادة هو الحصول على الهداية في الدنيا لأن من حرم الهداية كان مصيره الشقاء يوم القيامة والعياذ بالله. إن الحرمان الحقيقي هو الحرمان من نور الهداية، وكل حرمان سواه حرمان نسبي قابل لإيجاد البديل.
وهكذا فان مضمون الدعاء اللهم أكرمنا في الدنيا بنور الهداية ووفقنا لحسن العمل بمقتضاها واجعلنا يوم القيامة من الفائزين برضاك والجنة الناظرين إلى وجهك الكريم يا رب العالمين ..
الدعاء الختامي
ولما كان ختامه مسك جمع الشيخ دعاء ختاميا شاملا لجميع ألوان البر والخير التي يرغب فيها الإنسان. ونص الدعاء :
اللهم اجعلنــــــــــــــــــــــــــــــــا :

46 في الدنيا مهتدــــــــين ومن الحلال مرزوقين
مطالب الدنيا { ومن الحرام محفوظين ومن المعاصي هاربين
وعلى الطاعة واقفـــين وبالشهادة ناطــــــــقين
وفي الآخرة مرحومين وفي القبر مؤنســــــين
وعند السؤال ثابتـــــين وفي الحشر آمنيــــــــن
مطالب الآخرة { وفي الميزان راجحـيـن وعلى الصراط جائزين
وعلى الحوض واردين وفي الجنة خالديــــــــن
وفي الفردوس نازلـــين وفي عليين ساكنيــــــن
وفي وجه الله ناظريــن
ومن الملاحظات التي يمكن إبداؤها حول هذا الدعاء أذكر ما يلي :

1) إنه دعاء تفصيلي للدعاء المجمل السابق. أما الأدعية الست الأولى فتناولت مطالب الدنيا، في حين تناولت الإحدى عشر الباقية مطالب الآخرة.

2) أخذ الشيخ مرة أخرى بعين الاعتبارالعدد السالف بذكره 17 مطلبا وهو عدد ركعات الصلاة مثل ما فعل في حزب الفلاح ودور الكلمة الطيبة.

3) كما أخذ بعين الاعتبار أيضا عدد ركعات الصلاة في الحضر بجعله إحى عشر مطلبا للآخرة، وعدد ركعات السفر بجعله وستة مطالب للدنيا، تكملة للسبعة عشر.

4) أخذ بعين الاعتبار التدرج والترابط والترتيب بين جميع المطالب كما سنرى.
ونمر الآن إلى شيء من التفصيل لنقول: إن الدعاء ينقسم إلى شطرين أساسيين:

1)الشطر الأول: يتضمن ستة مطالب تتعلق بالدنيا، أول هذه المطالب مجمل والخمسة الباقية مفصلة.

1-طلب الهداية: بقوله "اللهم اجعلنا في الدنيا مهتدين". طلب الهداية طلب شامل إذا ما نال الإنسان منها حظا وافرا انعكس على سلوكه وتصرفاته لتساير منهج الله تعالى. إن مظهر الهداية أن تحدث توازنا واعتدالا في جميع حركات وسكنات الإنسان ما ظهر منها وما بطن لتتسم بالصحة والوسطية. كما تحدث لديه انسجاما والتحاما بين أقواله وأفعاله، بين ظاهره وباطنه. فالهداية بهذا الاعتبار نور تستضيء به جميع جنبات الفرد والمجتمع، وتنقشع به خبايا القلب وأغوار السريرة ليتحقق على غرار ذلك الاعتدال المطلوب والوسطية المنشودة في كيان الفرد والجماعة على حد سواء، ويحدث التوازن والانسجام المطلوبان لإقامة بناء المجتمع السليم. وهذا المطلب يوافق مقام التوبة، أول مقامات السلوك.

وتتجلى مظاهر الهداية في المطالب التالية:

2- تحري الحلال في كل ما يتم الانتفاع به كالمأكل والمشرب والملبس والمنكح وغير ذلك. وهو ما عبر عنه الشيخ بقوله "ومن الحلال مرزوقين". وليس الرزق كل ما يملك الإنسان وإنما ما يتم انتفاعه به فقط. وتحري الحلال من أبرز شروط الطريق كما أشار الشيخ إلى ذلك في الياقوتة ضمن الشروط بقوله "وتطييب لقمة وتعظيم حرمة". ولما سأل أحد الصحابة رسول الله أن يكون مستجاب الدعوة أجابه بقوله "أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة"((47)). وبعد تحري الحلال ينبغي:

3- اجتناب المحرمات بجميع ألوانها كما ورد في قول الشيخ "ومن الحرام محفوظين". واقتراف المحرومات انتهاك لحرمات الله ودوس لمحارمه وتطاول على حدوده، تعرض فاعلها إلى غضب الله كما ورد: "ألا إن لكل ملك حمى ألا إن حمى الله محارمه"((48)). وما دام الإنسان ضعيفا معرضا لهمزات النفس والهوى والشيطان جاء طلب الحفظ لسد هذه الثغرات. وقد ورد من وصايا رسول الله تعالى قوله "يا غلام احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده اتجاهك"((49)). والحفظ هو نصيب الأولياء من عناية الله الخاصة مثلما أن العصمة حظ الأنبياء. ومن مظاهر الهداية أيضا:

4- الفرار من المعاصي: الذي ورد في قول الشيخ "ومن المعاصي هاربين"، وهذا التعبير في غاية الروعة والدقة لأن الإنسان إن لم يكن في حالة إدبار ونفور من المعاصي فسيكون في حالة استئناس ثم يقترب منها ليقع في براثنها. ولا ريب أنه يتوجب على المسلم أن يفر من المعاصي ويبتعد عنها إلى المدى الذي لا تتاح معه فرصة السقوط فيها. وقد تأكد هذا المعنى في عدد من النصوص الشرعية. وبعد الفرار من المعاصي تتجلى الهداية في:

5- الوقوف على الطاعة كما ورد في قول الشيخ: "وعلى الطاعة واقفين" أي اللهم اجعلنا ملتزمين حدود الطاعة والامتثال في جميع الظروف والأحوال. جاء تعبير الشيخ بالوقوف إشارة إلى ضرورة الأهبة الدائمة والاستعداد المستمر استجابة للطاعة والامتثال اغتناما لعبادة الحال، لأن هيأة الجلوس لا تعبر عن الاستعداد بله الامتثال. ثم ختم مطالب الدنيا بطلب:

6- النطق بالشهادة بقوله وبالشهادة ناطقين. والمقصود بالنطق هنا وقت الممات حتى يكون النطق بالشهادة آخر عهد له بالحياة. لأن النطق بالشهادتين اعتقادا وتطبيقا هو أول أركان الإسلام، وهو من المسلمات البديهية على الدوام في حياة المسلم بله المريد. ولا غور، فإن النطق بالكلمة الطيبة، كلمة التوحيد، "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله" في أخر عهد الإنسان بالحياة تعتبر أعظم ذخيرة وأفضل زاد.
ويجدر هنا أن نشير إلى ملاحظتين أساسيتين:
أ= تمت مراعاة ترتيب بديع في الدعاء حسب التسلسل الزمني لحياة الإنسان. فالرزق أول ما يحتاج الإنسان منذ الولادة، لذا ورد الطلب مجملا كي يكون الرزق حلالا في جميع مراحل حياة الإنسان. وكأنه طلب لتوفيق الوالدين أولا لتحري الحلال لتنموعليه الأولاد، ثم توفيق الأولاد حتى ينتفع أبناؤهم من بعدهم، وهكذا حتى لا ينبت لحم من الحرام.
أما وقت الشباب، فالإنسان عادة ما يكون عرضة للتطاول على الحرمات، ولذلك ورد في الدرجة الثانية طلب الحفظ من الحرام لأن كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به كما ورد في معنى الحديث.

وفي وقت المراهقة يكون الشباب عرضة لارتكاب المعاصي خصوصا في غيبة التربية الواعية والمراقبة الكافية والتوجيه السديد لذلك ورد قول الشيخ "ومن المعاصي هاربين" في الدرجة الثالثة "حتى ينشأ الشباب على الطاعة .
ولما كان من المفروض أن يثبت الإنسان على الطاعة حتى مماته، أردف الشيخ بهذا الطلب بقوله "وعلى الطاعة واقفين" في الدرجة الرابعة.
أما في أخر المطاف فيتحتم أن يستدبر الإنسان الدنيا بذكر أحلى الكلام ليستقبل الآخرة فرحا مستبشرا لذلك ورد قوله "وبالشهادة ناطقين" كآخر مطالب الدنيا في آخر عهد بها.

ب= دقة وجمالية الترتيب فيما يخص تقابل فقرات الدعاء حيث تم تقديم طلب الحلال على طلب الحفظ من الحرام عكس تقديم طلب الفرار من المعاصي على طلب الوقوف على الطاعات.وذلك لوجهين:
- أما الأول، فكون الترتيب جاء متماشيا مع مراحل عمر الإنسان كما سبق تبيان ذلك.

- أما الثاني، فكونه بدأ بالقاعدة في الحالتين ثم تلاها بالاستثناء.
أما بخصوص النعم، فإن الحلية هي القاعدة، لأن الأصل في الأشياء الإباحية، لذلك كانت المحرمات بالاستثناء محصورة كما وكيف.
وأما بخصوص الأعمال والمآل فإن القاعدة فيها الخطأ و الخسران، لذلك ورد قوله تعالى (والعصر إن الإنسان لفي خسر). أما الصواب فيها فمن قبيل الاستثناء لكونه يستدعي جملة من الشروط والضوابط يستعصى توافرها ويصعب تحقيقها إلى لمن سبق له التوفيق. لذلك وردت النجاة من الخسران استثناء .

2ـ الشطر الثاني: وبعد أن انتهى الشيخ من مطالب الدنيا انتقل إلى مطالب الآخرة ساردا إياها على نفس الوتيرة بالترتيب والتتابع مثلما فعل بخصوص مطالب الدنيا، حيث استهلها بالمطلب المجمل ثم تلاه بالمطالب التفصيلية. وكان مطلب الآخرة المجمل هو:

7- طلب الرحمة الواردة في قول الشيخ "وفي الآخرة مرحومين". ولا ريب أن من شمله الله برحمته في الآخرة فقد فاز فوزا عظيما. كيف لا والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه نفى أن يدخل الجنة بعمله بقوله: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل". والأكيد أن رحمة الله وسعت كل شيء وأنها سبقت غضبه وأنه سبحانه يغفر من الذنوب ما يشاء ما دون الشرك. هذه حقيقة يقينية، ولكن ينبغي أن لا تؤدي بنا إلى التواكل والتراخي والتمني الفارغ وتعطيل الأسباب المفضية كترك الطاعات وتعطيل الأعمال. وينبغي الانتباه إلى أن الآيات القرآنية التي بشرت بسعة رحمة الله جاءت مقرونة بضرورة الأخذ بالأسباب من القيام بالطاعات والأعمال الصالحة كقوله تعالى (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم)((50)) هذه آية البشرى جاءت مقترنة بآية التكليف والوعيد وهي قوله تعالى مباشرة بعدها: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون)((51))،وكذلك آية البشرى في قوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء)((52)) جاءت مقترنة بآية التكليف التي تتممها بقوله تعالى (فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون)((53)).

معنى ذلك أن الاتكال على رحمة الله دون السعي الجاد والتعرض لنفحات الله والقيام بالتكاليف والواجبات في حدود المستطاع ضرب من التواكل المشين والاستهزاء بشرع الله وإخلال بمقام العبودية. وهذا ما ورد فيه وعيد شديد كما مر بيانه في قوله صلى الله عليه وسلم (كذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل) والتواكل يؤدي إلى تعطيل ما تقتضيه وظيفة العبودية الواردة في قوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)((54)).
أما مظاهر رحمة الله على عبده يوم القيامة فتتجلى في المواقف الآتية:

8- الإنس في القبر الوارد في قول الشيخ "وفي القبر مؤنسين"، لأن القبر أول محطة يحط فيها الإنسان الرحال في سفر الآخرة. ومن هذه المحطة يتضح مسار رحلته. فإن لاقى بالقبر وحشة وضمة تتداخل فيها الضلوع ، كان لابد ملاقيا مصاعب ومتاعب في باقي الطريق. أما إذا لاقى بالقبر ترحابا وضمة محبة وحنان ووجد فيه أمنا وأنسا فإنها بشائر تذليل العقبات وتيسير الأمور كمقدمة لحسن الخاتمة.

ولما كانت المرحلة اللاحقة هي خضوع الإنسان للمساءلة جاء الطلب الموالي:

9- الثبات عند السؤال الوارد في قول الشيخ "وعند السؤال ثابتين". وسؤال القبر هو أول اختبار للإنسان لإظهار مدى خضوعه وامتثاله في الدنيا لشرع الله تعالى. وتروي النصوص الصحيحة أن الحالة التي يقبل فيها الملكان المكلفان بالسؤال لها علاقة بمدى هذا الامتثال. وتعتبر هذه المحطة معبرا للحياة البرزخية التي إما أن يقبع الإنسان في السجن المقيم وإما أن يرفل فيها بالنعيم في انتظار الموعد العظيم. لذلك جاء الطلب الموالي:

10- الأمن يوم الحشر الوارد في قول الشيخ "وفي الحشر آمنين". ويوم الحشر هو يوم الفزع الأكبر والهول الأعظم الذي يبعث الله فيه جميع الخلائق ويتم فيه الفصل. "إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين". تتعرض فيه الخلائق للأهوال التي لا يعلمها إلا الكبير المتعال، وهو اليوم الذي لا يعزب فيه مثقال الذرة ويتم فيه وزن الأعمال:(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)((55)). والطائفة الناجية وحدها هي التي تكون في مأمن من تلك الأهوال. وهي الطائفة التي نعتتها النصوص بجملة من الأوصاف الحميدة. ومن هذه الطائفة زمرة الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين، ومنها فرق أخرى كالسبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم القيامة، وفرقة المتحابين في الله التي يغبطها الأنبياء وغيرها. وجاء طلب الشيخ أن يجعله ومريديه ضمن الزمرة الناجية.
ولما كان لا بد للأعمال أن توزن لقول الله تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)((56)) جاء الطلب الموالي:

11- رجحان كفة الحسنات لقول الشيخ "وفي الميزان راجحين". ورجحان الحسنات هو السمة البارزة لفوز الإنسان بالسعادة والرضوان لقوله تعالى (والوزن يومئذ الحق)((57)). ولن تذهب أفعال الإنسان سدى مهما جلت أو دقت لقوله تعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره).((58))
وإذا كان العمل الصالح هو مؤشر لامتثال الإنسان لشرع الله تعالى وقيامه بوظيفته في الحياة الدنيا، فهو أيضا الزاد الضروري لسفر يوم القيامة الطويل الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في وصيته لأبي ذر الغفاري بقوله "وأكثر الزاد فإن السفر طويل"((59)). وإذا كان الزاد يثقل كاهل حامله في الدنيا ويعطل سرعته، فإن زاد يوم القيامة خلاف ذلك يعطي صاحبه خفة وإسراعا. أما الحمل الذي يتقل كاهل صاحبه يومئذ ويهوي به في الظلام السحيق فهو حمل السيئات لذلك جاء الطلب الموالي:

12- اجتياز الصراط بسهولة كما ورد في قول الشيخ "وعلى الصراط جائزين". ويقع اجتياز الصراط على قدر خفة الإنسان كما مر آنفا، لذلك كانت طائفة تجتازه يسرعة البرق، وطائفة عدوا، وثالثة سيرا، ورابعة حبوا، وخامسة بمشقة عالية بين الحبو والكبو. أما الطائفة الخاسرة خسرانا مبينا والعياذ بالله وهي أكثر الطوائف عددا فالسقوط مآلها لتذوق وبال أمرها.

وبما أن اجتياز الصراط هو آخر محطات الفرز وبداية النعيم المقيم جاء المطلب الموالي:

13- الورود على الحوض: لقول الشيخ "ومن الحوض واردين"،ومن هنا ينطلق نعيم الآخرة لأن نعيم الآخرة هو النعيم الحقيقي وحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية لقول الله تعالى (وللدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون)((60)). إن نعيم الآخرة هو النعيم الذي لا ظمأ فيه ولا نصب ولا شقاء ولا تعب. وورود الحوض لارتواء لا ظمأ بعده أبدا. ومنه ينطلق التنعيم بعد أن كانت المراحل السابقة للمراجعة والحساب. وعندما يتحقق هذا الشرب العظيم يستمر العبد السعيد في التنعيم، لذلك جاء الطلب الموالي:

14- الخلود في الجنة: قلنا إن الآخرة هي الحياة الحقيقية الدائمة حياة الخلود التي لا موت بعدها. والخلود في جهنم يكون في حق المشركين والمنافقين والكافرين كما يكون في الجنة لأهل التوحيد. ومن أهل التوحيد طائفة تدخل الجنة مباشرة، وطائفة من العصاة والمذنبين تدخلها بعد قضاء مرحلة التطهير بجهنم. وخير السعداء من دخل الجنة مباشرة، وهذا ما عناه الشيخ في طلبه بالخلود أي طلب دخول الجنة مباشرة لا بعد التطهير، لأن الخلود في الجنة بعد دخولها أمر بديهي ومشهود، مادام عطاؤها عطاء غير مجذوذ.

ولما كانت الجنة مراتب متفاوتة كان اهتمام الشيخ منصبا حول:

15- النزول بالفردوس بقوله "وفي الفردوس نازلين" لأن الفردوس أحسن مراتب الجنة لذلك كانت من نصيب خيرة العباد. لذلك ذكرت كجزاء لعباد الرحمان في قوله تعالى (أولئك الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون)((61))، ثم ذكرت في حق المؤمنين الذين يعملون الصالحات في قوله تعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا)((62)). وكيف يبغون عنها حولا وهي أعلى مراتب الجنة.

ولما كانت الفردوس نفسها غرفا متفاوتة حدد الشيخ الغرفة المنشودة وهي:

16 ـ السكن في عليين بقوله: ( وفي عليين ساكنين). وقد عبر عنها القرآن الكريم أحيانا بأعلى عليين، كما عبر عنها بالغرفة وجعلها جزاء لعباد الرحمن الذين يتميزون عما سواهم بالصبر كصفة أساسية، حيث قال في ختام الآية ( أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما)((63)). وفي آية أخرى ( الملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار)((64)).
ويجدر التنبيه إلى التعبير الرائع الذي ورد في هذا الطلب سواء من حيث الترتيب أو من حيث اختيار الألفاظ المناسبة:
أما الترتيب فقد سبق الحديث عليه آنفا. وأما اختيار الألفاظ المناسبة فيكفي أن ننبه:
ـ أن الخلود ورد كمطلب عام بخصوص الجنة،
ـ أما النزول فجاء مخصصا بالفردوس باعتبارها خاصة الجنة،
ـ أما السكن فتعلق بأعلى غرف الفردوس على وجه التحديد.
ولما كان الإسكان بأعلى عليين ، على الرغم من كونه أعلى نعيم الجنة، لم يف هناك بالطموح المحدود للنفس المتنعمة وجاء الطلب الأخير متعلقا بأفضل نعيم على الإطلاق وختامه مسك وهو:

17 ـ النظر إلى وجه الله الكريم وأنعم به وأكرم من تنعيم ورد في دعاء الشيخ ( وفي وجه الله ناظرين)، والنظر إلى وجه الله الكريم هو أغلى أماني أهل النعيم إذ ليس مثله تنعيم ولا بعده تكريم. وقد وصفت بالنضارة الوجوه ذات الحظ العظيم التي تنظر يوم القيامة إلى الوجه الكريم في قوله تعالى ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)((65)). نسأل الله الكريم بصدق وشوق أن يجعلنا منهم.
ولما كان هذا المطلب أسنى المطالب وأغلى الأماني كان اهتمام العارفين الدائم منصبا حوله دون سواه، لأن كل نعيم سواه هو تابع له.
وطبيعي أن هذه المطالب لا تنال بحيلة وإنما هو الفضل كل الفضل وصدق الله العظيم إذ يقول ( قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده)((66)). إنه المن، إنه الفضل، إنها الرحمة. لذلك ذكر الشيخ ختام الدعاء بقوله: (برحمتك يا أرحم الراحمين يا رب العالم) والحمد لله رب العالمين.


هوامش الإشارات الواردة في الحضرة

33 = سورة الشورى الآية 11 34 = سورة يس من الآية 82
35 = سورة الحجر الآية 21 36 = سورة الشورى الآية 27
37 = سورة ق الآية 38 38 = سورة الأنبياء الآية 104
39 = سورة الشعراء الأية 89 40 = سورة آل عمران الآية 152
41 = رواه أحمد والحاكم وابن حبان… 42 = سورة الفرقان الآية 63
43 = سورة الكهف الآية 65 44 = رواه الشيخان وابن ماجة وابن حبان
45 = رواه الخطيب والحكيم وصاحب الكنز 46 = سورة الشعراء الآية 78
47 = رواه الطبراني في الأوسط 48 = رواه الشيخان والترمذي
49 = رواه الترمذي وأحمد والحاكم 50 = سورة الزمر الآية 53
51 = سورة الزمر الآية 54 52/53 = سورة الأعراف الآية 156
54 = سورة الذاريات الآية 56 55 = سورة الزلزلة
56 = سورة الأنبياء الآية47 57 = سورة الأعراف الآية 8
58 = سورة الزلزلة 59 = أنظر كتاب الاستعداد ليوم المعاد
60 = سورة العنكبوت الأية 64 61 = سورة المومنون الآية 11
62 = سورة الكهف الآية 107 63 = سورة الفرقان الآية 75
64 = سورة الرعد الآية 24 65 = سورة القيامة الآية 22
66= سورة إبراهيم الآية 11

تحقيق خادم الطريقة الشيخية بفرنسا حاكمي مصطفى غفر الله له

موقع الطريقة الشيخية الشاذلية ( طريقة أسلاف بيضاء نقية )

Mise en ligne le 15/11/2004. Tariqa-Cheikhiyya© 2004